كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأن تمييز حضرة الملك عن الإلهية والربوبية يستدعي شرحا طويلا فلنتجاوزه، ويكفيك من الأنموذج هذا القدر، فإن هذا بحر لا ساحل له. فإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فآن قلبك بقوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِها} الآية، وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن والأودية القلوب.
خاتمة واعتذار:
لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظاهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله: {اخلع نعليك} حاش لله فإن إبطال الظواهر رأى الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بين العالمين، ولم يفهموا وجهه. كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية.
فالذي يجرد الظاهر حشوى، والذي يجرد الباطن باطني. والذي يجمع بينهما كامل. ولذلك قال عليه السلام: للقرآن ظاهر وباطن وحدٌ ومطلع وربما نقل هذا عن علي موقوفا عليه. بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين اطراح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع نعليه، وباطنا باطراح العالمين. وهذا هو الاعتبار أي العبور من الشيء إلى غيره، ومن الظاهر إلى السر. وفرق بين من يسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الملائكة بيتا فيه كلب» فيقتنى الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا، بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب لأنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة: إذا الغضب غول العقل، وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول: الكلب ليس كلبا لصورته بل لمعناه- وهو السبعية والضراوة- وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورة الكلب، فبأن يجب حفظ بيت القلب- وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص- عن شر الكلبية أولى. فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعا، فهذا هو الكامل: وهو المعنى بقولهم الكامل من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة. وهذه مغلطة منها وقع بعض السالكين إلى الإباحة وطى بساط الأحكام ظاهرا، حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائما في الصلاة بسره. وهذا سوى مغلطة الحمقى من الإباحية الذين مأخذهم ترهات كقول بعضهم: إن الله غني عن عملنا وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته ولا يطمع في استئصال الغضب والشهوة لظنه أنه مأمور باستئصالها: وهذه حماقات.
فأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك حسده الشيطان فدلاّه بحبل الغرور. وأرجع إلى حديث النعلين فأقول: ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين. فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. وأهل هذا التنبيه هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتي معنى الزجاجة؛ لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار؛ ولكن إذا صفا حتى صار كالزجاج الصافي غير حائل عن الأنوار، بل صار مع ذلك مؤديا للأنوار، بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح. وستأتيك قصة الزجاجة.
فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر. وقس على هذا الطور والنار وغيرهما.
دقيقة:
إذا قال الرسول عليه السلام: «رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا» فلا تظنن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك، بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه؛ وإن كان عبد الرحمن مثلا نائما في بيته بشخصه، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي، فإن الحواس شاغلة له وجاذبة إياه إلى عالم الحس، وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت. وبعض الأنوار النبوية قد يستعلي ويستولي بحيث لا تستجره الحواس إلى عالمها ولا تشغله، فيشاهد في اليقظة ما يشاهد غيره في المنام. ولكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة، بل عبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الذي يعبر عنه بالجنة؛ والغنى والثروة جاذب إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل. فإن كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى أو مقاوما للجاذب الآخر صد عن المسير إلى الجنة. وإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسرا وبطئا في سيره؛ فيكون مثاله من عالم الشهادة الحبو فكذلك تتجلى له أنوار الأسرار من وراء زجاجات الخيال. ولذلك لا يقتصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورا عليه، بل يحكم به على كل من قويت بصيرته واستحكم إيمانه، وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان.
فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصورة وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء الصور. والأغلب أن يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنة ثم يشرق منها على الروح الخيالي فينطبع الخيال بصورة موازنة للمعنى محاكية له. وهذا النمط من الوحي في اليقظة يفتقر إلى التأويل، كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير. والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. والواقع في اليقظة نسبته أعظم من ذلك. وأظن أن نسبته إليه نسبة الواحد إلى الثلاثة. فإن الذي انكشف لنا من الخواص النبوية ينحصر شعبها في ثلاثة أجناس، وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة.
القطب الثاني: بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن:
فالأول منها الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنه أصل الروح الحيواني وأوله، إذ به يصير الحيوان حيوانا. وهو موجود للصبي الرضيع.
الثاني الروح الخيالي، وهو الذي يستثبت ما أورده الحواس ويحفظه مخزونا عنده ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بداية نشوئه: ولذلك يولع بالشيء ليأخذه، فإذا غاب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلا فيصير بحيث إذا غُيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله. وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار لشغفه بضياء النهار: فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه فيتأذى به. لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة بعد مرة. ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر مرة به فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد هرب.
الثالث الروح العقلي الذي به تدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال، وهو الجوهر الإنسي الخاص، ولا يوجد لا للبهائم ولا للصبيان. ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين.
الرابع الروح الفكري، وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة. ثم إذا استفاد نتيجتين مثلا، ألف بينهما مرة أخرة واستفاد نتيجة أخرى. ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير نهاية.
الخامس الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السموات والأرض، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِّن أَمرِنا ما كُنتَ تَدري ما اَلكِتابُ ولا الإيمانُ وَلَكِن جَعَلناهُ نورًا نَّهدي بِهِ} الآية. فلا يبعد أيها العاكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما لا يبعد كون العقل طورا وراء التمييز والإحساس تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز.
ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك. وإن أردت مثالا مما نشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك، ويحرم عنه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات التي منها المحزن ومنها المطرب ومنها المنوم ومنها المضحك ومنها المجنن ومنها القاتل، ومنها الموجب للغشى. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو يتعجب من صاحب الوجد والشغى. ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.
فهذا مثال في أمر خسيس لكنه قريب إلى فهمك. فقس به الذوق الخاص النبوي واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشيء من ذلك الروح: فإن للأولياء منه حظا وافرا. فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتنبيهات التي رمزنا إليها من أهل العلم بها. فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها: و{يَرفَعُ اللَهُ الَّذينَ آَمَنوا مِنكٌم وَالَّذَينَ أُوتوا العِلمَ دَرَجاتٍ}. والعلم فوق الإيمان، والذوق فوق العلم. فالذوق وجدان والعلم قياس والإيمان قبول مجرد بالتقليد. وحسن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان.
فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فاعلم أنها بجملتها أنوار لأنها تظهر أصناف الموجودات، والحسى والخيالي منها، وإن كان يشارك البهائم في جنسها، لكن الذي للإنسان منه نمط آخر أشرف وأعلى؛ وخلق الإنسان لأجل غرض أجل وأسمى. أما الحيوانات فلم يخلق ذلك لها إلا ليكون آلتها في طلب غذائها في تسخيرها للآدمي. وإنما خلق للأدمي ليكون شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادىء المعارف الدينية الشريفة. إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصا معينا اقتبس عقله منه معنى عاما مطلقا كما ذكرنا في مثال حبو عبد الرحمن بن عوف. وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض الأمثلة.
بيان أمثلة هذه الآية:
اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله، لكني أوجزه وأقتصر على التنبيه على طريقه فأقول: أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرها. وأوفق مثال له من عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فنجد له خواص ثلاثا: إحداهما: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف: لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة. وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو بعد. ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد.
الثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفّى ودقق وهذّب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، غير حائل عن إشراق نورها منها.
الثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جدا ليضبط به المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط. فنعم المعين المثالات الخيالية للمعارف العقلية. وهذه الخواص الثلاث لا نجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة إلا للزجاجة: فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفى ورقق حتى لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة. فهي أول مثال له.
وأما الثالث وهو الروح العقلي الذي به إدراك المعارف الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح. وقد عرفت هذا فيما سبق من بيان كون الأنبياء سرجا منيرة.
وأما الرابع وهو الروح الفكري فمن خاصيته أنه يبتدىء من أصل واحد ثم تتشعب منه شعبتان، ثم من كل شعبة شعبتان وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم يفضي بالآخرة إلى نتائج هي ثمراتها. ثم تلك الثمرات تعود فتصير بذورا لأمثالها: إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها بالبعض حتى يتمادى إلى ثمرات وراءها كما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم. فبالحرىّ أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة. وإذ كانت ثمراته مادة لتضاعف أنوار المعارف وثباتها وبقائها فبالحرىّ ألا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها، بل من جملة سائر الأشجار بالزيتونة خاصة: لأن لب ثمرها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، ويختص من سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان. وإذا كانت الماشية التي يكثر نسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة، فالتي لا يتناهى ثمرتها إلى حد محدود أولى أن تسمى شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد، فالبالحرىّ أن تكون لا شرقية ولا غربية.